في خضم الصراعات الكبرى وتصاعد التوترات الجيوسياسية، يسلك البعض من الجمهور طريق إبداء الرأي في قرارات المقاومة الفلسطينية وتوجهاتها تجاه العدو الإسرائيلي، كسبيل للتعبير عن الانتماء والمساهمة في صنع التغيير. غير أن هذه الممارسة، التي تبدو ظاهرياً انعكاساً للتفاعل الإيجابي، تخفي أبعاداً نفسية واجتماعية وإعلامية معقدة تستوجب وعياً نقدياً أعمق بما تخلّفه من تأثيرات. فالانخراط في قضايا ملتهبة بهذه الحساسية يتجاوز حدود الفرد ليطال منظومة المجتمع بأكملها، حيث تترتب عليه تبعات معرفية ونفسية، وتحديات قد تفوق قدرة الجمهور على إدراك حجمها الكامل.
التأثيرات النفسية على الفرد والجماعة
إن الإدلاء بالرأي في قضايا كبرى ومعقدة دون التخصص اللازم يخلق حالة من “الإجهاد النفسي” أو Mental Overload، حيث يجد الأفراد أنفسهم محاطين بصراعات داخلية وشعور بالعجز بسبب عدم قدرتهم على التأثير الفعلي في قرارات كبرى. تشير دراسات نفسية إلى أن هذا الإجهاد النفسي يُضاعف من مستويات القلق والإحباط، إذ أن التورط غير المتخصص في شؤون حساسة يؤدي بالفرد إلى شعور مستمر بالعجز، خاصة حين يدرك لاحقاً أن آرائه لم تُبنَ على فهم عميق للحقائق على الأرض.
بالإضافة إلى ذلك، على المستوى الجمعي، يؤدي انتشار الآراء المتضاربة إلى خلق “الفوضى الإدراكية” بين الجمهور، حيث تتشابك الآراء المختلفة وتزيد من تشتت الرأي العام. هذا يؤدي إلى حالة من التشويش، تفقد فيها النقاشات حول القضايا المحورية فعالية التأثير بسبب سيطرة أفكار سطحية وغير مدروسة على الحوار المجتمعي، مما يجعل الوعي الجماعي يتضاءل تدريجياً ويصبح أكثر عرضة للتشتيت.
التأثيرات الإعلامية: كيف يعزز الإعلام الحديث التورط غير المدروس
مع تطور الإعلام الحديث، خاصة وسائل التواصل الاجتماعي، تضاعفت تأثيرات الإدلاء بالرأي في غير التخصص. يرى الباحث “شيرلي توركل” أن هذه الآراء غير المتخصصة قد تخلق حالة من “التضليل المعنوي”، حيث يشعر الأفراد بوهم السيطرة، معتقدين أن المعلومات المتاحة تجعلهم مؤهلين للتأثير على الأحداث. ما يحدث فعلياً هو ما يُعرف بـ”الهولوغرام الإخباري” أو News Hologram Effect، حيث يتم تصوير واقع بعيد عن الحقيقة لكنه يسيطر على الأذهان ويشوش الفهم العام للقضايا الأساسية، مؤدياً إلى تشتت كبير بين التفاصيل الثانوية.
هذا التأثير تضاعف بشكل ملحوظ في النزاعات الكبرى، حيث يُقدم الأفراد “نصائح” أو يضعون “خططاً” كأنها استشارات لا بد لجهات الصراع من أخذها بعين الاعتبار، متناسين أن هذه القضايا تتطلب عمقاً معرفياً واستراتيجياً يتجاوز معلوماتهم السطحية.
التجارب التاريخية: كيف ساهمت الآراء غير المدروسة في نتائج كارثية؟
التاريخ يقدم لنا شواهد على كيفية تأثير الآراء غير المدروسة والمعلومات المغلوطة في النزاعات الكبرى. ففي الحرب العالمية الأولى، انتشرت معلومات مضللة حول الحملة البريطانية على تركيا، ما دفع الجمهور البريطاني لدعمها دون إدراك كامل لتعقيداتها، وهو ما أسفر عن معركة غاليبولي المأساوية التي انتهت بخسارة فادحة. وفي سياق مشابه، قد يؤدي الإدلاء بآراء غير متخصصة حول قرارات المقاومة الفلسطينية مثلا تجاه تعاطيها مع العدو الإسرائيلي إلى إرباك الخطط الاستراتيجية وإثارة أحداث غير محسوبة قد تزيد من تعقيد الوضع.
تجنب الآثار السلبية: مبادئ لضبط الرأي العام المسؤول
لتجنب الفوضى الناتجة عن الآراء غير المتخصصة، يجب على الأفراد التحلي بوعي نقدي ومراعاة عدة مبادئ:
• الاعتماد على مصادر موثوقة: البحث عن الحقائق من خلال مصادر رسمية وموثوقة بدلاً من الاعتماد على مصادر غير موثوقة تزيد من تشويش الإدراك العام.
• التخصص واحترام الخبرات: الاعتراف بأن قضايا الصراع تتطلب تحليل ودراسات معمقة يقوم بها متخصصون، وأن الآراء العاطفية قد تؤدي إلى تفسيرات خاطئة أو مبسطة.
• التحلي بالنقد الذاتي والموضوعية: الابتعاد عن الآراء الانفعالية والتركيز على فهم دقيق ومدروس للوضع، حيث تُقيَّم الآراء بموضوعية بعيداً عن الأحكام المسبقة.
يتجلّى عدم التخصص حين تصدر الآراء من جهات أو أفراد لم يُعهَد إليها رسمياً تقديم استشارات استراتيجية لجهات الصراع، ما يجعلها تفتقر إلى العمق المطلوب لفهم تعقيدات المشهد. هذا التدخل لا يخلّف سوى فوضى معرفية تشوش الرؤية وتضبب الحقائق، فيغرق الرأي العام في خضم من التفسيرات السطحية والأحكام العشوائية. ونتيجةً لذلك، يصبح المجتمع فريسة سهلة للتأثير الإعلامي السلبي، حيث تختلط الأولويات بالقشور وتُشوّش القدرة على تمييز جوهر القضايا من ثانوياتها.