كل من يلقي نظرة عابرة على التاريخ يعرف أن البريطانيين والأمريكيين ليسوا إلا وجهين لعملة واحدة. الأمريكيون، ببساطة، هم أحفاد البريطانيين الذين ضاقوا ذرعًا بملكهم وحملوا أمتعتهم ليبنو إمبراطوريتهم الخاصة. وها هي المفارقة: تلك الإمبراطورية الأمريكية الجديدة، التي كافحت للتخلص من نير الإمبراطورية البريطانية، صارت تكرر الآن نفس أخطاء الإمبراطورية الأم من توسع واستبداد وفرض “حضارتهم” التي – ويا لسخرية القدر – تأتي على شكل قنابل وصواريخ. لعل التاريخ لم يمنحنا سوى نكتة كونية عظيمة، حين قسم العالم بين إمبراطورية بريطانية عجوز وإمبراطورية أمريكية فتية، لكن الحقيقة؟ كلاهما انعكاس للصورة ذاتها، فقط بلون جديد وعباءة مزينة بشعارات براقة.
في القرن السابع عشر، تدفق الإنجليز إلى ما يعرف الآن بالولايات المتحدة، محملين بأحلام السيطرة على الأراضي وتحضير” الشعوب الأخرى. وما إن نالوا استقلالهم، حتى تنفس العالم الصعداء معتقدًا أن أمريكا ستكون شيئًا مختلفًا. ولكن ما لبثت القارة العذراء أن خيّبت الآمال؛ “الابن الضال” انغمس سريعًا في تقليد أمه العجوز، فلم يكن أقل طمعًا أو أقل نهمًا. بريق الإمبراطورية البريطانية لم ينطفئ، بل انتقل إلى وريثتها الأمريكية، التي وجدت أن سياسات الاستعمار البريطاني العتيقة تستحق التحديث واللمسة الحديثة.
بريطانيا، الإمبراطورية التي لم تغب شمسها يومًا، نظرت للشعوب المستعمرة كأرقام في سجلات الأرباح والخسائر، لا أكثر. عاثت في القارة الأفريقية، وأرهقت الهند، وأضرمت نار الفتنة في الشرق الأوسط بحسابات باردة ومخططات محكمة. أما أمريكا؟ فلم تبتعد عن الطريق ذاته، ولكن بأسلوب أكثر “أناقة” في الظاهر؛ حولت الهيمنة العسكرية إلى استعمار اقتصادي وثقافي، وبدلاً من الاحتلال المباشر، فضّلت السيطرة من خلف الكواليس عبر الاقتصاد والإعلام.
ننتقل سريعًا إلى بريطانيا “العظمى”، التي لطالما رأت نفسها الوصي الحضاري على العالم، مستغلة كل فرص الاستحواذ ببرود لا مثيل له. هذه بريطانيا، التي كانت لا ترى عيبًا في امتصاص موارد الشعوب وتركها تتخبط في فوضى مستديمة. وكما قال ونستون تشرشل ذات مرة في لحظة صراحة مذهلة: “لم أكن أحب الهند، لكنني رأيت فيها منجمًا للبريطانيين.” هذا التصريح ذاته يلخص عقيدة بريطانيا، التي لم تترك وراءها سوى أمم محطمة ومجتمعات ممزقة.
أما “الابن الأمريكي” فقد تعلم الدرس جيدًا، بل وابتكر فيه. لم يرَ في السيف أداة كافية، بل اختار الدولار، ليس كعملة فحسب، بل كوسيلة استعمار. لم يكن صدفة أن يُسمى هذا النظام “رأسمالية متوحشة”، تلك التي تحكم العالم اليوم بشعار “التجارة الحرة” وكأنها تقول للشعوب: “سننهب مواردكم وندعكم تغرقون في الديون.” فما حاجتهم إذًا بالسيف؟ الرأسمالية المتوحشة تكفي وتحترف دور السارق الذي يُبقي يديه ناصعتين. وعبارة هنري كيسنجر الشهيرة “أمريكا لا تمتلك أصدقاء؛ تمتلك مصالح فقط” تجسد بوضوح السياسة الخارجية الأمريكية، حيث تُحرر الدول وترفع الشعارات بينما تترك وراءها رماد الحروب وأشلاء الأبرياء.
ثم هناك القناع الأنيق الذي يسمونه “المساعدات”. يطل علينا الأمريكي والبريطاني بوجه منمق من الإنسانية، ليمنح الشعوب “هدايا” مغلفة بالدمار. هذه المساعدات ليست إلا الذئب الذي لبس معطف الصوف، ولربما نسي الذئب أن معطفه يسقط عند أول ريح، ليظهر زيف الشعارات. حتى تشرشل اعترف يومًا بعبارة ملؤها السخرية: “الديمقراطية هي أسوأ أشكال الحكم، لكنها أفضل ما جُرّب حتى الآن.” جعلوا من الديمقراطية درعًا يتخفون وراءه؛ شعارًا للتبرير، لا للعطاء.
أما عن النفاق السياسي، فهو فن تتقنه كلتا الإمبراطوريتين. بريطانيا، التي ادعت الحضارة، كانت أول من استغل الشعوب وقسمها. وأمريكا، التي ورثت هذا الإرث، لم تقف مكتوفة الأيدي؛ بل أضافت بصمتها “العصرية” – العولمة، الثقافة الشعبية، والنمط الحياتي، وحولت كل شيء إلى كليشيهات مزيفة حول الحرية. وفي عام 1990، ظهر جورج بوش الأب ليبشر بـ“نظام عالمي جديد”، نظام واعد بالسلام والاستقرار، لكنه في الحقيقة لم يكن سوى وهم، مبررًا لتدخلات أمريكا وعودتها العسكرية إلى دول لا تعرف منها سوى البؤس والحروب.
النهاية؟ لا مكان لدهشة؛ اليد الأمريكية في كل ركن، والقدم البريطانية تلاحقها في كل الزوايا. كلاهما يصنع الأزمات، ثم يعظ الشعوب عن الحرية والديمقراطية. وكما قال شكسبير في لحظة تجلٍّ، “الجحيم فارغ، وكل الشياطين هنا”، لكن في عصرنا الحالي، يبدو أن الشياطين قد عرفت كيف ترتدي ربطات العنق وتروج لـ“رسالتها الحضارية” التي ما هي إلا لعنات مستدامة على الشعوب المغلوب على أمرها.
Good