بين زراعة الوهم والحقيقة

في عالم الإعلام الحديث، لم تعد الشاشات مجرد أدوات لنقل الأخبار؛ بل أصبحت مصانع لإعادة تدوير الحقائق وابتكار روايات جديدة تخدم أجندات سياسية بامتياز. في أحد الأيام، تصرّح جهة ما بأن “الموضوع قيد التحقيق”، وفي اليوم التالي تظهر معلومات “غير مؤكدة” تزعم أن العملية تمت بموافقة أعلى المستويات. وبين تصريح وتسريب، تتشكل قناعات الجمهور على أساس “الحقيقة المزيفة”.

 

هذا ليس مجرد صدفة، بل هو تطبيق حرفي لنظريات علم النفس الاجتماعي وغسيل الأدمغة. إحدى هذه النظريات هي “التنافر المعرفي” (Cognitive Dissonance)، حيث يتم إغراق الجمهور بسيل من المعلومات المتناقضة، ما يدفعه لاختيار القصة الأكثر توافقاً مع تحيزاته السابقة، بغض النظر عن دقتها.

 

لنأخذ مثالاً: التصريحات الإسرائيلية حول قطاع غزة. يتم نشر خبر عاجل على القنوات العبرية بأن “الجيش استهدف موقعاً لإنتاج الصواريخ”، ليكتشف الصحفيون لاحقاً أن “الموقع المستهدف” لم يكن سوى منزل مدني. لكن بحلول تلك اللحظة، تكون الرسالة قد انتشرت، وترسخت الرواية الرسمية في عقول المشاهدين. يُطلق علماء النفس على هذه التقنية اسم “الحقائق الأولية” (Primacy Effect)، وهي القدرة على جعل المعلومات الأولى التي يسمعها الفرد تسيطر على إدراكه، حتى لو ظهرت أدلة تنقضها لاحقاً.

 

ولا ننسى أسلوب “الأكاذيب المقرونة بالحقائق”، وهي تقنية بارعة تجمع بين أجزاء صحيحة من الأحداث وبعض التوابل المضللة. مثال ذلك، إعلان القنوات الرسمية عن “نجاح العملية العسكرية في القضاء على تهديد أمني كبير”، دون ذكر أن التهديد كان عبارة عن مجموعة من الشبان العزّل في مظاهرة سلمية.

 

وإذا أردنا أن نتعمق في تقنيات السيطرة على العقول، فإن غسيل الدماغ لا يتم فقط من خلال الأكاذيب المباشرة، بل عبر استراتيجية مدروسة تعرف ب“الإقناع التدريجي“ (Gradual Persuasion). هذه التقنية تُستخدم بمهارة لترويض عقل الجمهور ببطء، بحيث يبدأ بتصديق الأكاذيب الصغيرة قبل أن يُصبح مستعدًا لقبول الكذبة الكبرى. خذ على سبيل المثال تصريحات القنوات العبرية خلال العدوان على لبنان في عام 2006، حينما بدأت التقارير بـ”عمليات محدودة لاستهداف الإرهاب”، لتتحول تدريجيًا إلى تبرير قصف البنية التحتية بالكامل على أنها “ضرورة أمنية”.

 

لكن الأدهى من ذلك هو تطبيق نظرية “التكرار المغرض” (Repetition Bias)، التي تشير إلى أن تكرار نفس المعلومات، حتى لو كانت كاذبة، يجعل الجمهور يعتقد بصحتها. القنوات الإعلامية الإسرائيلية، على سبيل المثال، استمرت لأسابيع في ترديد أن “دولة إسلامية تمتلك أسلحة نووية تهدد أمن المنطقة”، دون تقديم دليل مادي واحد. وبالرغم من ذلك، تجد هذه الرواية صدى واسعًا في الخطاب الدولي، مما يبرز قوة الإعلام في تشكيل الحقائق الدولية.

 

في دراسة أُجريت في جامعة ستانفورد حول التأثير الإعلامي، وجد الباحثون أن الجمهور الذي يتعرض لذات الرواية يوميًا يصبح أقل استعدادًا لطرح الأسئلة وأكثر ميلًا لتبنيها كحقيقة مطلقة. أليس هذا هو غسيل دماغ، ولكن بأسلوب “متمدن”؟

 

عندما تصبح الشائعة حقيقة

 

لا يمكننا تجاهل قوة الشائعات كأداة سحرية لتغيير الحقائق. الشائعة، وفقاً لما يُعرف في علم النفس بـ“تأثير الحقيقة الوهمية” (Illusory Truth Effect)، هي تلك المعلومة التي تُكرر على مسامع الناس بشكل مستمر حتى تصبح لديهم “حقيقة غير قابلة للجدل”.

 

خذ على سبيل المثال حرب العراق عام 2003، حينما كانت العناوين الرئيسية تتحدث عن “أسلحة الدمار الشامل” التي يمتلكها النظام العراقي. بالرغم من غياب أي دليل مادي، استمرت وسائل الإعلام العالمية، وعلى رأسها القنوات الإسرائيلية والغربية، في تضخيم الرواية. النتيجة؟ حرب شاملة بنيت على كذبة. وفيما بعد، وبعد أن اعترف الجميع بخطأ تلك المعلومات، كان الجمهور قد انتقل بالفعل إلى تصديق كذبة أخرى؛ فذاكرته قصيرة، والموجة الإعلامية لا تتوقف.

 

في دراسة نُشرت في مجلة علم النفس السياسي، تم الكشف عن أن الشائعات تُصمم بعناية لتستهدف احتياجات الجمهور النفسية، مثل الحاجة للشعور بالأمان أو الانتماء. الشائعات التي تحمل رسائل تهديدية، مثل “إذا لم نقم بهذا الإجراء فستكون هناك كارثة”، غالباً ما تكون أكثر انتشاراً وتأثيراً، لأنها تضرب في عمق غريزة البقاء لدى الإنسان.

 

عندما تتحول البيانات المتضاربة إلى أداة للإلهاء

 

في سياق مستجدات وقف إطلاق النار في غزة، تتجلى براعة الإعلام العبري في استخدام البيانات المتضاربة كأداة للتلاعب بالرأي العام وتوجيهه. فمنذ أيام، تمطر القنوات الإسرائيلية مشاهديها بتقارير عاجلة عن “اتفاق وشيك لوقف إطلاق النار”. أحد هذه التقارير ذهب إلى حد الإعلان أن الاتفاق سيبدأ الليلة، فيما يخرج سياسيون ليؤكد في خطابات رسمية أن الجهود تُثمر تقدمًا ملموسًا نحو تهدئة الأوضاع، دون تقديم تفاصيل واضحة.

 

ولكن في الوقت ذاته، يستمر القصف، وتتناقل وسائل الإعلام تقارير متناقضة تشير تارةً إلى أن الاتفاق تم تأجيله، وتارةً أخرى إلى أنه يواجه عقبات فنية. وفي كل مرة يخرج تصريح جديد، يكون الهدف واضحًا: إبقاء الجمهور في حالة ترقب، مشوشًا وغير قادر على تمييز الحقيقة من الوهم.

 

هذا النمط ليس جديدًا؛ بل هو تطبيق عملي لنظرية “الإلهاء المُتعمّد” (Strategic Distraction). يُستخدم هذا الأسلوب بشكل ممنهج لإبقاء الأنظار بعيدة عن الجرائم الميدانية التي تحدث في اللحظة ذاتها. ففي الوقت الذي ينشغل فيه الجمهور بمناقشة تفاصيل وقف إطلاق النار، يتم تصعيد العمليات العسكرية أو تنفيذ اعتقالات في الضفة الغربية، دون أن يلحظ الجمهور الانحراف عن الرواية الأصلية.

 

كما أن نشر هذه البيانات المتضاربة يعكس أسلوبًا يُعرف بـ “خلق الفوضى المعرفية” (Cognitive Overload). وفقًا لهذه الاستراتيجية، يتم إغراق الجمهور بسيل من المعلومات المتضاربة، ما يؤدي إلى حالة من الإنهاك الفكري تجعل الناس أكثر عرضة لتصديق الرواية الرسمية التي تقدمها السلطة الإعلامية المسيطرة، كونها “الأبسط” أو “الأكثر اتساقًا” ظاهريًا.

 

إن خطاب السياسيين أنفسهم يُظهر كيف يتم استغلال المواقف الدولية لخلق شعور زائف بالأمل. وبينما يطمئنون العالم بأن “الاتفاق قريب”، يظل الواقع على الأرض هو الحكم الوحيد. القصف مستمر، والضحايا يتزايدون، فيما تُستخدم هذه البيانات كستار دخاني لإخفاء الفجوة الكبيرة بين التصريحات السياسية والحقيقة الميدانية.

 

ما يحدث الآن ليس مجرد تقارير إعلامية عادية، بل هو مسرحية متكاملة تسعى لخلق “إجماع وهمي” بين الجمهور العالمي. الإعلام العبري، ومعه شركاؤه الدوليون، يُصرّ على استخدام كلمات مثل “هدنة”، و”اتفاق وشيك”، و”تحقيق تقدم”، بينما تُظهر الوقائع عكس ذلك تمامًا. يُراد للجمهور أن يظل متفائلًا بأن السلام ممكن، حتى ولو كان هذا السلام مجرد وهم يُستخدم لإطالة أمد الصراع أو كسب الوقت لتحقيق أهداف سياسية أو عسكرية.

 

في هذه اللعبة الإعلامية المعقدة، يبدو أن البيانات المتضاربة ليست سوى أداة أخرى لإبقاء العقول مشوشة والأنظار مُشتتة. وبينما يجلس العالم منتظرًا “وقف إطلاق النار الليلة”، تستمر آلة الحرب في طحن المزيد من الأرواح. ربما يكون الوقت قد حان للجمهور، سواء المحلي أو العالمي، لإدراك أن الحقيقة ليست دائمًا ما يُقال على الشاشات أو يُعلن في المؤتمرات الصحفية، بل هي غالبًا ما يتم إخفاؤها بين السطور.

 

وفي ظل هذا الجنون الإعلامي، علينا أن نتساءل: هل نحن، كجمهور، ضحايا أم متواطئون؟ من السهل إلقاء اللوم على وسائل الإعلام، لكن الحقيقة أن الجمهور يلعب دوراً محورياً في تعزيز هذه الدوامة. فبمجرد أن نضغط على “إعادة التغريد” أو “مشاركة”، نكون قد ساهمنا في نشر الرواية المضللة.

 

في هذا المسرح العبثي، يبدو أن الحقيقة ليست سوى مشهد جانبي في عرض كبير عنوانه “من يسيطر على العقول؟”. ربما علينا أن نتوقف عن كوننا مجرد مشاهدين صامتين، ونبدأ في تبني نهج نقدي يُعيد التوازن لهذا الميزان الإعلامي المختل. العالم اليوم لا يحتاج فقط إلى صحافة حرة، بل إلى جمهور واعٍ، مدرك لألاعيب التأثير النفسي والإعلامي، كي لا يُصبح مجرد بيدق آخر في لعبة “الكبار”.

guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x