كرة القدم: رياضة أم أداة ؟

لطالما كانت كرة القدم أكثر من مجرد لعبة؛ فهي شغف يجمع الملايين حول العالم تحت مظلة واحدة من الحماس والتشجيع. لكن، خلف هذا الحب العالمي للرياضة، تكمن أبعاد أعمق تتجاوز الملاعب الخضراء، حيث تحولت كرة القدم في كثير من الأحيان إلى أداة تُستخدم لإلهاء الشعوب، وتوجيه الرأي العام، بل أحيانًا لإثارة الانقسامات.

 

التعصب الرياضي.. هوية أم أداة؟

 

تشير الدراسات إلى أن التشجيع الرياضي ليس مجرد انتماء عابر لنادٍ أو منتخب، بل هو شكل من أشكال الهوية الجماعية. فحين يشجع الفرد فريقه أو منتخبه الوطني، يشعر بالانتماء إلى كيان أكبر يعزز من هويته الاجتماعية. إلا أن هذا الانتماء قد يتجاوز حدوده الطبيعية، فيتحول إلى تعصب يعمق الفجوات بين الشعوب أو حتى بين أبناء المجتمع الواحد.

 

وفقًا لنظرية الهوية الاجتماعية (Social Identity Theory)، فإن الجماهير الرياضية تصبح أكثر عرضة للتأثر بالعواطف الجماعية خلال الأحداث الرياضية الكبرى. وهذا التعصب، وإن بدا ظاهرة طبيعية، يُستغل أحيانًا لتوجيه الأنظار بعيدًا عن القضايا الجوهرية للأمة أو لتأجيج الخلافات بين الشعوب والمجتمعات.

 

عنف الملاعب: تجربة شخصية في بريطانيا

 

لا يمكن الحديث عن كرة القدم دون التطرق إلى العنف المرتبط بها. شخصيًا، عايشت هذا الجانب المظلم خلال وجودي في بريطانيا. كان ذلك عقب إحدى المباريات الحاسمة بين فريقين كبيرين. خرجت إلى الشارع لأتفاجأ بمشاهد التكسير والعنف غير المبرر: سيارات مدمرة، نوافذ محطمة، ومشادات بين الجماهير في كل زاوية. كل هذا بسبب نتيجة مباراة كرة قدم!

تلك المشاهد كانت صادمة، خصوصًا أن بريطانيا تُعد واحدة من الدول التي قطعت شوطًا طويلًا في مكافحة شغب الملاعب، ومع ذلك، بقيت هناك جيوب من التعصب والعنف تتفجر بين الحين والآخر. هذا الموقف جعلني أتساءل: كيف يمكن لشيء بسيط كخلاف على مباراة أن يدفع البشر إلى هذا المستوى من الفوضى؟

 

الإحصائيات.. كرة القدم كوسيلة توجيه

 

الأرقام لا تكذب. في بطولات كأس العالم، تُسجل نسب مشاهدة تصل إلى 3 مليارات شخص حول العالم. هذا الحشد الجماهيري الهائل يمثل فرصة ذهبية للسياسيين وصناع القرار لتوظيف الرياضة في توجيه الرأي العام أو الترويج لسياسات معينة.

على سبيل المثال، أظهرت دراسة صادرة عن جامعة هارفارد عام 2021 أن المباريات الرياضية التي تجمع دولاً ذات تاريخ سياسي متوتر تزيد المشاعر القومية الحادة بنسبة 40%.

من جهة أخرى، تُظهر بيانات مؤسسة “غالوب” أن البطولات الرياضية تعمل كعامل تهدئة نفسي للشعوب في أوقات الأزمات. فخلال كأس العالم أو البطولات القارية الكبرى، ينخفض اهتمام الجمهور بالقضايا السياسية والاقتصادية بنسبة تصل إلى 30%، ما يجعلها أداة مثالية لصرف الأنظار عن الأزمات الداخلية.

 

الإلهاء أم التوحيد؟

 

تاريخيًا، استُخدمت كرة القدم لإعادة توجيه الانتباه الجماعي في أوقات الاضطرابات. ففي الأرجنتين خلال كأس العالم 1978، استغلت الحكومة العسكرية البطولة لتحسين صورتها الدولية في وقت كانت فيه البلاد تعيش فترة قمع سياسي واسع النطاق. وفي سياق آخر، تُستغل المباريات المحلية الكبرى لتحفيز العصبيات الإقليمية داخل الدولة نفسها، ما يخلق تنافسًا مشحونًا بين مختلف مناطق البلاد.

 

الإعلام والملاعب.. وجهان لعملة واحدة

 

الإعلام الرياضي، الذي يبدو في ظاهره مكرسًا للرياضة فقط، هو الآخر يلعب دورًا كبيرًا في هذا السياق، إما عبر تضخيم الانتصارات أو التركيز على الخلافات الجدلية بين الفرق، ويُستخدم الإعلام لإثارة عواطف الجماهير وتحويل اهتمامها عن قضايا أكثر أهمية. وفي بعض الأحيان، يُستغل الإعلام الرياضي في تعزيز الانقسامات القومية أو الطائفية، مثلما يحدث في بعض المباريات التي تحمل طابعًا سياسيًا خفيًا.

 

 بين اللعبة والاستغلال

 

كرة القدم، بحد ذاتها، ليست المشكلة؛ فهي لعبة تحمل في طياتها الكثير من المتعة والشغف. ولكن، ما يثير القلق هو كيفية توظيف هذه الرياضة من قبل أنظمة وجهات متعددة لتحقيق أهداف بعيدة كل البعد عن الرياضة. وبينما تبقى كرة القدم أداة للتوحيد في بعض الأحيان، فإن استغلالها كوسيلة توجيه أو إلهاء يُعد أحد أكثر الأبعاد تعقيدًا في علاقة الشعوب بهذه الرياضة.

السؤال الذي يبقى مطروحًا: هل نحن أمام لعبة تُمتع الملايين، أم أداة أخرى تُوجه العقول؟

guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x