يُعد الوعي من أكثر المفاهيم تركيبًا في حقل الفلسفة واللاهوت والأنثروبولوجيا المعاصرة، إذ يتداخل فيه المعرفي بالأنطولوجي، والذاتي بالاجتماعي، والديني بالتاريخي. وعلى الرغم من أننا نعيش تجربة الوعي بشكل يومي ونعرفه بشكل مباشر من خلال إحساسنا بأنفسنا، فإن تفسيره العلمي والفلسفي لا يزال في مراحله الأولى، إن لم ندركها وفقا للمفهوم الإلهي. اعتبر الفيلسوف الفرنسي ديكارت أن الوعي هو حقيقة واضحة لا يمكن الشك فيها، واعتبره دليلًا على وجود الذات العاقلة. ومع ذلك، فإن الوعي لا يزال مفهومًا غامضًا لكثير من البشر لم يُفكّ طلاسمه بعد، وما زال فهم طبيعته يمثل تحديًا كبيرًا. فما هو الوعي فعليًا؟ وكيف تناوله الفلاسفة على مر العصور؟ وما علاقة الوعي بالفهم الديني؟
الوعي هو حالة إدراكية مركّبة تُتيح للإنسان أن يكون مدركًا لذاته ولما حوله، وهو يشمل الإحساس، والانتباه، والتفكر، والانفعالات، والقدرة على التقييم الأخلاقي والمعنوي. لا يُنظر إليه فقط كحالة نفسية داخلية، بل كبنية وجودية تتفاعل مع العالم، ويتخذ أشكالًا متعددة: من الوعي الحسي المباشر إلى الوعي التأملي، الأخلاقي، أو الروحي.
من الناحية الفلسفية، تنوّعت محاولات تعريفه:
– الوعي عند ديكارت: أساس اليقين الفلسفي، ودليل على وجود الذات المفكرة (“الكوجيتو”).
– الوعي عند كانط: شرط قبلي (transcendental) يجعل التجربة ممكنة، وهو ما يربط بين المدركات الحسية والمقولات العقلية.
– الظاهراتيون (هوسرل، هايدغر، ميرلو-بونتي): ركزوا على “تجربة العيش” واعتبروا الوعي مرتبطًا ببنية الزمان والمكان والتجسيد.
– الفكر الإسلامي الفلسفي: خاصة عند ابن سينا وصدر الدين الشيرازي، قدّم رؤية تربط الوعي بالنفس الناطقة والوجود التشكيكي، حيث تتدرج مراتب الإدراك من الحس إلى العقل ثم إلى الشهود الروحي.
من منطلق هذا التعقيد، تتضح الحاجة إلى تصور تكاملي للوعي، يتجاوز النزعات التجزيئية، ويُعيد موضعته في إطار الغاية الوجودية للإنسان.
تقدِّم الرؤية القرآنية، كما تفككها المدرسة الإمامية، تصورًا فريدًا لمراحل الوعي، لا كأطوار معرفية فقط، بل كتحولات وجودية في صلب مشروع الخلق. فالوعي ليس حالة ذهنية محايدة، بل هو مشاركة في حركة التاريخ، وتجلٍ لمقاصد الوحي، وسيرورة تكمّل البعد الوجودي للإنسان، وتُعِدُّه للعب دور الخلافة في الأرض.
الوعي الفطري: البذرة الأولى للمعرفة
(..فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) “الروم: 30“
في بداية التكوين، لا يأتي الإنسان إلى الوجود كصفحة بيضاء (tabula rasa) كما تصوّر بعض التيارات الفلسفية الغربية، بل ككائن مشحون بـ”قابلية الهداية”. وهذا ما يصفه صدر الدين الشيرازي بـ”العقل الهيولاني”، أي القابلية التكوينية للتعقل، المتضمنة في جوهر النفس الإنسانية. الفطرة هنا تُفهم كحالة من “الاستعداد المعياري”، وليست منظومة معلومات. إنها قابليّة فاعلة للاعتراف بالمطلق، لكنها غير مكتفية بذاتها، وتحتاج إلى تدخل خارجي – هو الوحي – ليحرّك هذا الاستعداد نحو الحقيقة.
هذه الفطرة ليست فقط معرفة توحيدية ضمنية، بل هي أيضًا نداء داخلي يُشكّل قاعدة للحرية الأخلاقية. وعليه، فإن أي وعي لا يُبنى على هذا الجذر الفطري سيبقى فاقدًا للاتجاه الأخلاقي، ويعرض عن غايته الكونية.
الوعي التاريخي: الوعي المتجسد في حركة النبوة
(كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) “الأنعام: 55”
المرحلة الثانية من مراحل الوعي تنقل الإنسان من الوجود الفطري إلى العالم التاريخي، أي من إمكان المعرفة إلى ميدان الفعل. في الرؤية الإمامية، النبوة ليست فقط تبليغًا للشريعة، بل مشروعًا لتأسيس الوعي في المجتمع ضمن سياق سياسي اجتماعي. الأنبياء، بحسب هذا المنظور، هم مهندسو الوعي الجمعي. ولذا فدورهم لا يقتصر على التعليم، بل يمتد إلى “هدم الباطل” و”تشييد المعنى”، تمامًا كما فعل النبي إبراهيم عليه السلام عندما “تفكك” الأصنام قبل أن يعلّم قومه “من الذي يخلق ويسير”.
وقد بيّن الشهيد محمد باقر الصدر في “سُنن التاريخ في القرآن” أن الوعي التاريخي هو إدراك سنن الله في المجتمعات، لا بوصفها قَدَرًا، بل كتفاعلات بين العقل والإرادة والواقع. هنا يتحول النص القرآني إلى نظام تفسيري للواقع.
الوعي العقلي الفلسفي: التأويل الوجودي للنص
(وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) “العنكبوت: 43”
العقل، في التكوين حسب مبنى الإمامية، ليس مجرد أداة استنتاج، بل هو “الحجة الباطنة” التي تتفاعل مع الوحي في كشف طبقات المعنى. هذا العقل يتجاوز الصور الحسية والمحسوسات، ليصل إلى مدركات “ما فوق التجربة”، وفق منطق “الوجود التشكيكي” الذي طوّره الملا صدرا. العقل هنا يقوم بدور مزدوج: تفسير النص (التأويل العقلي) وفهم الغاية الوجودية من الإنسان. ويُعدّ مفهوم “العقل المعياري” الذي ظهر في علم الأصول تجسيدًا لهذا التوازن بين التلقي العقلي والانضباط الشرعي. كما أن العقل الفلسفي في هذا السياق المعرفي لا يفصل بين الغاية والمعنى، بل يرى في كل أمر شرعي مشروعًا تكامليًا لتزكية الإنسان، مما يجعل الوعي هنا سعيًا لا للحقيقة المجردة، بل للحكمة العينية.
الوعي الولائي: من المعرفة إلى الارتباط
(إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) “المائدة:55”
الولاية في الرؤية الإمامية ليست نظامًا سلطويًا، بل حالة معرفية وروحية. إنها تمثيل لحضور الله المستمر في التاريخ من خلال الإنسان الكامل – الإمام المعصوم. وقد فصّل الشيخ المفيد والشيخ الطوسي هذا المعنى في كتبهم، حيث بيّنوا أن الحجة الإلهية ضرورة عقلية لاستمرار الوصل بين الخلق والمبدأ. الوعي الولائي هنا ليس طاعة فقط، بل “كشف” للبعد الباطني للوجود من خلال الاتصال بالمرآة الكاملة للحقيقة. وهنا يلتقي هذا التصور مع الرؤية العرفانية–الفلسفية التي ترى في الإمام مظاهر الأسماء الإلهية. إنه وعي يربط بين النص والتاريخ والكينونة، ويُحوّل علاقة الإنسان بالإمام إلى علاقة تحويلية: يتشكّل فيها الإنسان على مثال “الإنسان الكامل”.
الوعي الانتظاري: الاستقبال النشط للمطلق
(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) “القصص:5″
في الفهم الإمامي، “الانتظار” لا يعني الركون إلى المجهول، بل هو أفق حضاري مفتوح، يستبطن التوتر بين الواقع والغاية. المنتظِر الحقّ هو من يحيا بوعي النقص، لكنه لا يستسلم له. وهنا يحضر مفهوم “الزمن المفتوح” في فكر الشهيد مطهري، حيث يصبح التاريخ صيرورة مستمرة باتجاه العدالة. الوعي الانتظاري يخلق إنسانًا رافضًا للانغلاق، مستعدًا للتجديد، ومتسامحًا مع الغيب، لكنه مشتبك مع الحاضر. ولهذا فالانتظار في جوهره ليس موقفًا وجوديًا فرديًا، بل مشروع جماعي لصياغة العالم وفق النموذج الإلهي.
إن كل مرحلة من مراتب الوعي ليست إلا درجة في سلّم التكوين الإنساني الذي يبدأ من الفطرة، ويترقّى عبر التجربة والنص والعقل، وصولًا إلى الغاية الأخروية. وبهذا المعنى، فإن النبوة، الإمامة، والانتظار ليست معتقدات معزولة، بل محطات تَكَوُّنٍ معرفي ووجودي. الرؤية الإمامية لا تختزل الوعي في “المعرفة”، بل تجعله مشروع حياة: حياة تُفهم لتُطهّر، وتُطهّر لتُصلَح، وتُصلَح لتصلَح بها الأرض.